المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السيرة


sweet9381
22-11-2007, 02:20
سيرة الصحابة: الخلفاء الراشدين : سيدنا أبو بكر الصديق : الدرس 5/ 5 لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
الموضوع : أدبه وتواضعه في التعامل مع الصحابة .
تفريغ : المهندس عبد العزيز كنج عثمان
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي والأستاذ أحمد مالك .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً ، وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون : مع الدرس الثالث و السبعين من دروس سير صحابة رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين ، ومع الدرس الخامس من سيرة سيدنا الصديق رضي الله عنه ، و يبدو أنه الدرس الأخير .
أيها الإخوة الكرام : الشي الذي يحير العقول في سيرة هؤلاء الأبطال أنهم كانوا قمماً في التقوى ، وفي الطاعة ، وفي الإخلاص ، وفي حب الله ورسوله ، وكانوا مع ذلك يخافون من الله خوفاً لو وُزِّع على أهل بلد لكفاهم .
أيها الإخوة المؤمنون : كلام دقيق نضعه بين أيديكم ، يقول عليه الصلاة و السلام : " رأس الحكمة مخافة الله "
و يقول عليه الصلاة و السلام:" أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً "
فهل من الممكن أن تعرف حجم عقلك من حجم حبك ؟ وهل يمكن أن تعرف حجم عقلك من حجم خوفك ، فكلما كنت أشد خوفاً من الله كان عقلك أرجح و كلما كنت أشد حباً لله عز وجل كان عقلك أرجح ، فبإمكانك أن تمتحن حجم عقلك ورجاحة عقلك من خلال حجم خوفك و حبك ، وقد ضربت لكم مثلاً من قبل قد يبدو مضحكاً ؛ لو أن أشخاصًا خيَّرناهم بين قطرميز بلور وطني ، ثمنه عشرون ليرة سورية ، و بين كأس كريستال ثمنه مائتا ليرة ، أو قطعة ألماس ثمنها مائتا ألف ، و حينما يختار أحدهم القطرميز نحكم على عقله وعلى جهله و على حماقته ، مع أنه أكبر بكثير ، وحينما يختار آخرُ الكأس نقول لعله أذكى ممن اختار القطرميز، لكنه يبقى أقل عقلاً من الذي اختار قطعة الألماس الصغيرة جداً ، فأرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً ، هذا الصحابي الجليل دائماً كان يقول : يا ليتني كنت شجرة تعضد ، وسيدنا عمر كان دائماً يقول : ليت أم عمر لم تلد عمر ، ماذا رأى هذا الصحابي ؟ لم لا يقول أحدنا هذا الكلام ؟ و الله الذي لا إله إلا هو لا يخالط شعوري لثانية واحدة أن هذا الكلام لا يقال للاستهلاك ، ولا يقال تمثيلاً كما يقول الناس اليوم ، بل كانوا صادقين ، فالصدق فضيلة كبرى ، كانوا صادقين مع أنفسهم ، ومع ربهم ، ويبدو أنهم رأوا عِظَم المسؤولية التي أُلقيت عليهم ، ورأوا عِظَمَ الفضل الذي أنيط بهم ، ورأوا هذا التكليف العظيم الذي كلفهم الله إياه ، وفهموا أن الإنسان يحمل رسالة كبيرة جداً في الحياة ، لذلك كما قال الشاعر :
***
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله و أخو الجهالة في الشقاوة ينعم .
***
فالإنسان البسيط كلما صغر عقله يشعر بسعادة أكثر ، وكما يقال : بطن ملآن كيف تمام ، يعيش ليأكل ، وهمُّه بطنُه .
هناك من يأكل ليعيش ، هناك من يعيش ليأكل كلاهما لا يعجبني الذي يعيش ليأكل حيوان ، والذي يأكل ليعيش إنسان طبعاً ، ولكن هناك سؤال دقيق : تعيش لماذا ؟ يعيش ليأكل فهو حيوان ، لكن الذي يأكل ليعيش لا بأس به أرقى بكثير ؟ تعيش لماذا ؟ لا بد أن يفهم الإنسان أنّه لله عز وجل ، فالموضوع أكبر بكثير من أننا حضرنا درساً أو سمعنا درساً لطيفاً ، الموضوع رسالة . تعيش لماذا ؟ أمن أجل أن تأكل ! انظروا أيها الإخوة كيف أن الناس جميعاً يمشون في اتجاه إجباري ، يولَد ، ثم يدخل الابتدائية ، ثم يأخذ شهادة الإعدادي ، ثم الثانوي ، ثم يأخذ شهادة جامعية ، أو يتقن مصلحة أو حرفة ، يتزوج ، وينجب أولاداً ، ثم يزوجهم ، ويكبُر قليلاً ، فتهمه صحته ، ثم يضعون نعيه ، هذه هي الحياة ! شيء ممل واللهِ ، طريق سالك ، لكنه طريق إجباري ، لكن الإنسان أعظم من ذلك ، يحمل رسالة .
هذا النبي الكريم الذي جاء إلى الأرض و غادرها ، فهدى أمماً ، ومنهم هؤلاء الصحابة الذين فتحوا بلاداً ، ونشروا فيها الإسلام والفضيلة والسعادة و معرفة الله عز وجل .
أنقل لكم ثلاثة أقوال : فعَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا قَالَ نَعَمْ إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ *
(رواه الترمذي)
سيدنا الصديق يقول : يا ليتني كنت شجرة تعضد ، سيدنا عمر يقول : ليت أم عمر لم تلد عمر ، أي أن هؤلاء الصحابة الكرام عرفوا خطورة المسؤولية .
أيها الإخوة : سأضع بين أيديكم واقعتين تتحدثان عن ورع هذا الخليفة العظيم ، ربيعة الأسلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كان بيني وبين أبي بكر كلام ، حوار ، فقال لي كلمة كرهتها ، ولعل هذه الكلمة لو قلناها نحن لافتخرنا بها ، ولكن كلما ارتقى الإنسان يحاسب نفسه حساباً دقيقاً ، حساباً بالمثاقيل ، والله أحياناً ابتسامة ساخرة تهوي بها من عين الله ، أحياناً قد يدخل شخصٌ إلى بيت فيجده صغيراً ، فيتساءل : كيف يسعك هذا البيت ؟ أنت ماذا فعلت بهذه الكلمة ...؟ أنت عملت عملاً سيئًا جداً ، الإنسان اشترى هذا البيت ، وفرح به ، ويرى نفسه وكأنه بجنة ، اشترى وجمع ثمنه منذ ثلاثين سنة صغير ، لكنه آواه ، رتبه و فرشه و فرح به فأذهبت النشوة عنه ، إنّ المؤمن دائماً يسعى لإسعاد الناس لا لتصغير شأنهم ، ولا لإفساد حياتهم ، وعلى كل : كان بيني و بين أبي بكر كلام ، يبدو أن سيدنا الصديق تكلم كلمة ، فرأى في وجه أخيه ربيعة جمودًا ، ثم ندم عليها ، وقال لي : يا ربيعة ردَّ عليَّ مثلها حتى تكون قصاصًا ، قلت : لا أفعل ، أعوذ بالله .
إخواننا الكرام : كان أصحاب رسول الله يعرفون قيمة بعضهم ، هذا صحابي جليل ، هذا أمين سر رسول الله عليه الصلاة و السلام ، ثم يدخل في الإسلام رجل فهل من السهولة أن يتطاول عليه ، قال ربيعة : و الله لا أفعل ، فهو يعرف قدر الصدِّيق ، ألم أقل لكم قبل درسين أو ثلاثة عندما قال سيدنا الصديق لسيدنا عمر : مدَّ يدك لأبايعك ، قال له : لا أفعل ، أنت أعظم وأفضل مني فقال له : أنت أقوى مني ، قال له : قوتي مع فضلك ، وأنا في خدمتك ، ولما وقف سيدنا الصديق على منبر رسول الله لم يجرؤ على أن يقف في ذلك المكان ، لقد كان يقف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصعد درجتين فقط ، ولعل منبر النبي كان له ثلاث درجات فقط ، لكنه صعد درجتين ، واكتفى بهما ، ثم إنّ سيدنا عمر ما جرؤ على أن يقف في مقام أبي بكر ، قال : ما كان اللهُ ليراني أن أضعَ نفسي في مقام أبي بكر ، فإذا كان إخوة في حلقة يجب أن يعرفوا قدر بعضهم ، هذا أكبر سناً ، هذا أقدم ، هذا منذ عشر سنوات ، فيجب أن تعرف قيمة أخيك الأكبر منك قدراً ، وعلماً ، وأقدم سناً ، وأقدم في انتمائه لهذه الحلقة الطيبة مثلاً ، الاحترام المتبادل ، انظر إلى الجيش فيه تسلسل في الرتب ، ولديهم إجراءات قاسية جداً ، فإذا تجاوزها الإنسانُ يعاقَب ، وأهل الإيمان كذلك لهم مراتب ، وأسبقية ، قال : واللهِ لا أفعل ، أعوذ بالله ، فقال لي: لتأخذن بحقك مني ، أو لأشكونّك لرسول الله ، أنا أستنبط استنباطاً دقيقاً : أن هذا الصحابي الجليل له قلب عامر بذكر الله ، فلما رأى في وجه أخيه كراهية كلمة قالها ندم ندماً شديداً و هذا الندم و هذا الاختلال لا يرأبه ، ولا يصلحه إلا أن يقتص منه ، قلت ما أنا بفاعل ، واللهِ لا يعقل ، وأنا معجب بالأدب بين الصحابة ، لأنني ذات مرة قرأت عن سيدنا زيد الخير رضي الله عنه ، رجل من وجهاء الجاهلية كان شهماً كان صاحب مروءة وكان جميل الصورة فلما قدم النبي عليه الصلاة والسلام وقف في مؤخرة المسجد فلفت نظر النبي فلما انتهت خطبته وصلاته سأله من الرجل ؟ فأجابه أنا زيد الخيل ، فقال له عليه الصلاة والسلام : بل أنت زيد الخير ، مباشرة غيَّر له اسمه ، ثم دعاه إلى البيت ، وقال له : واللهِ يا زيد ما وُصِف لي رجل إلا رأيته دون ما وصف إلا أنت ، وُصِف له فلما رآه فوق ما وصف ، لله درك يا زيد ، فالرجل حديث عهد بالإسلام ، ربما إسلامه منذ حوالي نصف ساعة ، عُمْر إسلامه نصف ساعة ، فالنبي قدم له وسادة ليتكئ عليها ، ماذا قال له ؟ قال له : والله لا أتكئ في حضرتك يا رسول الله ، فما هذا الأدب ؟ لا يتكئ في حضرة رسول الله وقد أسلم منذ قليل .
حدثني أخ البارحة أنّ رجلاً جلس في مسجد غير هذا المسجد ، يحضر خطبة الجمعة ، وكما تعلمون في المسجد أماكن مريحة للجلوس في بعض مرافقه ، فوضع رجلًا فوق رجل ، وهذا المنظر لا يناسب فالنبي عليه الصلاة والسلام ما رئي ماداً رجليه قط ، وهو سيد الخلق ، وحبيب الحق .
فالإنسان كلما اقترب من الله عز وجل ازداد أدباً حتى إنّ أصحاب رسول الله تحيَّروا في أدب رسول الله ، قالوا : يا رسول الله ما هذا الأدب ؟ قال : أدبني ربي فأحسن تأديبي .
فالمؤمن يؤدبه الله ويؤدبه حتى تراه كالملاك ، كلماته لطيفة ، ليس فيها كلمة تنبو عن السمع ، قال له : والله لا أفعل ، قال : فذهب عني منطلقاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، وانطلقت وراءه ، فجاء أناس من أسلم فقالوا : يرحم الله أبا بكر في أي شيء يستعلي عليك ، بل يريد أن يقتص منه حتى يرتاح ولا يستعلي ، هل ترون ما أدَقَّ حساب النفس ؟ وهو الذي قال لك ما قال ، قلت لهم اسكتوا هذا أبو بكر ، هذا الذي قال الله عنه ثاني اثنين إذ هما في الغار ، وفي القرآن ذُكِر اسمه ، هذا الذي قال عنه ثاني اثنين إذ هما في الغار ، إياكم أن يلتفت فيراكم تنصرونني عليه فيغضب ، فإذا غضب أبوبكر غضب رسول الله لغضبه ، وإذا غضب رسول الله غضِب الله لغضبهما فيهلك ربيعة ، فالصحابة يعرفون مقامات بعضهم تماماً ، وربيعة يعرف مَن هو الصديق ، هذا الصاحب الأمين ، هذا الذي فدى النبي بحياته ، فداه بماله ، يقول ربيعة : وانطلقتُ وراء أبي بكر ، فأتى الرسول فحدثه بما كان ، فرفع إلي الرسول رأسه وقال : يا ربيعة ما لك وللصديق ؟ قلت : يا رسول الله ، إنه قال لي كلمة كرهتها ، ثم طلب إلي أن أردها عليه لتكون قصاصاً فأبيت ، أنا لم أفعل شيئًا ، فقال عليه الصلاة والسلام : أحسنت يا ربيعة ، هكذا أريدك ، أحسنت يا ربيعة ، لا تردها عليه ، ولكن قل : غفر الله لك يا أبا بكر ، أي إن هذا أسلوب الأدب بين الإخوة ، فإذا قال لك أخوك كلمة قاسية ، فقل له : غفر الله لك .
قرأتُ عن صحابي جليل ، تكلم معه أخوه كلمة ، فقال له : إن كنتَ صادقاً فيما قلت فغفر الله لي ، وإن كنتُ أنا الصادق فغفر الله لك ، ففي كلا الحالتين يغفر الله لنا .
قال : فولى أبو بكر وهو يبكي عرف مقامه عند رسول الله ومقامه عند الصحابة ، كما عرف أدب هذا الصحابي الجليل ، والهداية قد تنجم من موقف أخٍ مسلم نحو أخيه ، تنبع من أدبٍ جمٍّ ، وذوق رفيع .
ذات مرة أخبرتكم بقصة حدثني بها أخ كان ببلد عربي مُعار للتدريس ، وكان في المدرسة فراش آذِن ، أيْ هذا أهون إنسان على المجتمع في هذا البلد ، من بلاد شرقي آسيا معاشه خمسمائة ريال ، كل حياته عبارة عن فرشة إسفنج 2 سم ومسمار يعلِّق عليه كيسًا فيه حاجاته ، خمسمائة ريال معاشه الشهري ، وهذا مبلغ عندهم ضخم جداً يحول معظمه إلى أهله ، وكل عشرين إنسان منهم بغرفة واحدة ، فرشة إسفنج 2سم ومسمار ، فقال لي : أنا مدرس بهذه المدرسة شاهدت هذا الفراش يقوم بالمسح ، معي كأس من الشاي صببتها لي حديثاً ، فقلت له : تفضل ، فهل تصدقون أيها الإخوة أن هذِه الكأس من الشاي الذي قدمه لهذا الفراش كان سبب إسلامه ، الفراش الغريب نظر إليه ، وقد مضى عليه خمس سنوات في هذه المدرسة ، لم يسلم عليه أحد ، ولم يقرأ عليه إنسان السلام ، وهو يعمل بصمت بهذا الأجر الزهيد ، قال له : لماذا قدمت لي هذه الكأس ؟ قال له : واللهِ لا لشيء إلا لأني رأيتك تخدمنا ، يعني نوعًا من المودة ، قال له : أنا أحمل ماجستير في العلوم ، هذا أثر الفقر ، فقال لي : لما سمعت أنه يحمل (ماجستير) في العلوم صعقت ، قال لي : دعوته إلى البيت ، ودعوت أستاذ علوم يحمل شهادة عليا ، وجئنا بموسوعة باللغة الإنكليزية وقلنا له : اقرأ ، أي : انظر ، كلام ، فدعوة ، هذه ماجستير بالعلوم ، فراش ، قرأ ، وشرح ، يعني كلامه صحيح ، هو طبعاً ليس مسلماً، لا أعرف أهندوسي هو ، أم سيخ ، لا أعرف ، قال : ما الذي دعاكم لأن تدعوني للبيت وهذا شرف عظيم ، فقالوا له : نحن نتمنى أن تكون مسلماً ، قال: ما الإسلام ؟ قال لي هذا الصديق : والله بقينا أربعة أسابيع كل يوم ندعوه إلى البيت ونشرح له الإسلام إلى أن أعلن إسلامه واتصل بالله عز وجل ، حسُن إسلامه .
الإنسان غال على الله كثيراً ، تصور كأس شاي قدمها لإنسان فوجدها كبيرة جداً ، ، فأنا أتمنى مِن المسلم أن يكون دقيقاً ، لو عندك صانع بالمحل ، هو صانع عندك ، لكنه عند الله ليس صانعاً ، وإنما هو عبد لله ، قد يكون عند الله أعظم منك ، قد يكون أقرب إلى الله منك ، وأنت صاحب المحل ، وأنت عضو غرفة التجارة ، طويل ، عريض ، ومستورد كبير ، وعندك معملٌ ، قد يكون هذا الصانع الذي معاشه ألفان وخمسمائة ليرة ، ولا يملك من الدنيا شيئًا ، قد يكون أقرب إلى الله منك .
فالإنسان كلما ارتقى إيمانه يحترم الآخرين ، ولا يتكبر عليهم والدليل سيدنا الصديق قال : وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم .
وهناك حادثة أخرى لا بأس من ذكرها ، قال أبو الدرداء : كنتُ جالسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه ، وقال : يا رسول الله إنه كان بيني وبين عمر بن الخطاب شيء فأسرعت إليه نادماً ، وسألته أن يغفر لي فأبى عليّ ، وهذا المقام الذي حصله سيدنا الصديق أعلى مكان بين الصحابة ، وهذا المقام يعكس ورعه الشديد ، والخوف الشديد ، مرة قلت لكم إنَّ النبي سأل أصحابه : مِن عاد مريضاً ؟ فقال الصديق : أنا ، مَن سار في جنازة ؟ قال الصديق : أنا ، مَن تصدق على مسكين ؟ قال الصديق : أنا ، من وصل رحمه ؟ قال : أنا ، إنه رجل قمة في العمل الصالح ، فقال النبي : يغفر الله لك يا أبا بكر ، ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فلم يجده ، ثم أتى النبي عليه الصلاة والسلام فقال : يا نبي الله أنا كنت أظلم ، يا رسول الله أنا كنت أظلم ، فقال عليه الصلاة والسلام ، واسمعوا أيها الإخوة إلى إنصاف النبي قال : إن الله قد بعثني إليكم فقلتم جميعاً : كذبت ، وقال لي أبو بكر صدقت ، أول من أسلم الصديق ، وقد روى هذه القصة البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ فَسَلَّمَ وَقَالَ إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ فَقَالَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلَاثًا ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَسَأَلَ أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالُوا لَا فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَعَّرُ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ مَرَّتَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي مَرَّتَيْنِ فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا *
ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كان له كبوة إلا أخي أبا بكر ، لم يتلعثم ، فقلتم لي : كذبت ، وقال أبو بكر لي : صدقت ، وواساني بنفسه وماله ، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي ، ما ساءني قط فاعرفوا له ذلك ، هذا مقام كبير ، ومع ذلك لما توفي النبي لم يختل توازنه ، وما اختل توحيده ، قال : من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت .
إخواننا الكرام : كان هذا الصحابي يقوم بأعمال لا تُصدَّق ، فقبل أن يكون خليفةً كانت له خدمات جلِيَّة لأبناء حيه ، ومن هذه الخدمات أن له جيرانًا يتامى صغار ، وعلى رأسهم عجوز كبيرة في السن ، فكان يحلب لهم الشياه في الليل ، يؤمُّ هذه البيوت فيحلب لهم الشياه ، ويؤم بيوتًا أخر فيطهو لهم الطعام ، وكان يقدم خدمات يترفَّع عنها أصغر داعية الآن ، أأنا أخدم فلانًا ؟! وليس لدينا إلا الكلام فقط ، وإلقاء الخطب ، فكان هذا الصحابي الجليل يقوم بخدمات يترفع عنها أصغر داعية ، ولما صار خليفة ، تناهى إلى سمعه حسرة العجائز ، لأنهن سيحرمن من هذه الخدمة الجليلة التي يقوم بها هذا الرجل الصالح ، وذات يوم قرع دارًا مِن تلك الدور ، فسارعتْ فتاة صغيرة لتفتح الباب وإذا بها تصيح : جاء حالب الشاة ، مَن هو حالب الشاة ؟ سيدنا الصديق ، خليفة رسول الله ، وخليفة المسلمين ، لما عرفت أن سيدنا الصديق طرق الباب وهو خليفة المسلمين قالت : ويحك يا بنيتي ألا تقولين خليفة رسول الله ما هذا الكلام ؟ قال : يقول كتاب السيرة : يطرق مع نفسه ويهمهم بكلمات لعل لسان حاله يقول دعيها لقد وصفتني بأحب الأعمال إلى الله هذا الوصف أحب إليه من كلمة خليفة المسلمين .
لديَّ تعليق أعجبني أقرؤه لكم ، قالوا : لو قدر لأبي بكر بشمائله الفذّة أن يكون في منصب الخلافة في عصرنا هذا أكان منهجه سيتغير ؟ يقول كاتب السيرة : إنه لم يحلب الشياه ، ولكن سوف يقدم خدمات أخرى تتناسب مع هذا العصر ، إنه تعليق لطيف ، لذلك وصف النبي هذا الصحابي الجليل بأوصاف ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ *
(رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد)
وأرحم الخلق بالخلق رسول الله ، وكلما ازدادت الرحمة في قلبك فهذا دليلٌ على أنك أقرب إلى الله ، وأبعد قلب عن الله عز وجل القلب القاسي ، والراحمون يرحمهم الله ، وإذا أردتم رحمتي فارحموا خلقي .
هل تعرفون أن امرأة بغيًّا رأت كلباً يلهث من شدة العطش ، يأكل الثرى من شدة العطش ، فنزلت إلى بئر وملأت خفها ماءً ، وارتقت وسقت هذا الكلب ، فغفر الله لها ، فأن ترحم حيوانًا ، وترحم إنسانًا ، وترحم طفلاً صغيرًا ، وترحم صانعًا في محلك ، لعل الله يرحمك ، أنا تأتيني أحيانا شكاوى ، إحداها أنّ طفلاً يتيمًا في محل يتمنى أن يأخذ شهادة ، فطلب من صاحب المحل أن يخرج من المحل قبل ساعة إلى مدرسة ليلية ، فلم يرض ، وقال : عندما يتعلم يترك محلِّي ، فدعْه خادمًا عندي ، أما ابنه فيقول : دفعت له ثماني عشرة ألف ليرة لقاء دروس خاصة ، فيحبه أن يكون طبيبًا ، أما ابن الناس الذي أحبَّ أن يأخذ شهادة منَعَه ، وقال له : إذا تغيبت ساعة فلا تأتِ إلى هذا المحل ، قلبه مثل الصخر .
مرة شاهدت بعيني صاحب محل تجاري ، ابنه في العطلة الصيفية وكان في المحل ، وثمة صانع مِن سن ابنه تماماً ، فبعث أثوابًا إلى جهة ، وحمل هذا الصانع أول ثوب ، وثاني ثوب ، وثالث ثوب ، فلم يستطع أن يحمل أكثر ، فقال هذا الصانع : لم أستطع يا سيدي ، فقال له صاحب المحل : أنت شاب فاحمل ، ولم ينتبه إلى نفسه فجاء ابنه وحمل ، فقال له : انتبه يا بنيّ ولا تحمل ، انتبه لظهرك .
هذه العنصرية ، التناقض البشع المخزي ، حين لا تكون عندك رحمة عامة ، أمّا رحمتك بأولادك فلا قيمة لها لأنها فطرية ، وليست كسبية ، أودعها الله فيك كي تستمر الحياة ، لكن بطولتك في الرحمة العامة ، أن ترحم إنسانًا لا تعرفه ، ارحم إنسانًا مقطوعًا ، ليس له أحد ، إنسانًا ضعيفًا ، هذه هي الرحمة ، شيء طبيعي جداً أن ترحم كلّ من يحتاج إلى الرحمة أيًّا كانت صلتك به .
سيدنا الصديق في قلبه رحمة كبيرة ، عندما رأى سيدنا بلالاً يعذِّب سيدُه أمية بن خلف ، فأراد أبو بكر أن يشتريه منه ، وعندما اتفقا على بيع بلال إلى سيدنا الصديق كي ينقذه من العذاب ، يقول أمية بن خلف تحقيراً لشأن بلال : خذه ، فلو أبيت إلا أوقية واحدة لبعتك بها ، فقال سيدنا الصديق : والله لو أبيت إلا مائة ألف لأعطيتك ، إنْ كان لا يساوي عندك أوقية فإنه يساوي عندي مائة ألف ، اشتراه منه ووضع يده تحت إبطه وقال هذا أخي حقاً .
كان أصحاب رسول الله إذا ذُكر الصدِّيق يقول القرشيون ، الهاشميون ، الذين هم من أرومة قريش ، والذين أسلموا : هو سيدنا وأعتق سيدنا ، يعنون بلالاً .
سيدنا عمر خليفة المؤمنين علم أن بلالاً قدم المدينة ، فخرج لاستقباله ، حسب البروتوكولات الحديثة ، إذا كان الضيف رئيس دولة يستقبله رئيس دولة ، وإذا الضيف رئيس وزارة يستقبله رئيس وزارة ، وإذا الضيف وزير خارجية يستقبله وزير خارجية ، أمّا أنْ يخرج رئيس دولة (خليفة) ليستقبل شخصًا كان إلى أجلٍ قريبٍ عبدًا فهذا هو الإسلام .
وهناك قصة تعرفونها ، وقف أبو سفيان ساعات طويلة في باب عمر فلم يؤذن له ، وصهيب وبلال يدخلان بلا استئذان ، فتألم أبو سفيان ، فلما دخل على عمر عاتبه ، وقال له : أبو سفيان ، زعيم قريش يقف ببابك ساعات طويلة ، ولا يؤذن له ، وصهيب وبلال يدخلان ويخرجان بلا استئذان ، فقال له سيدنا عمر : أأنت مثلهما ؟ عندما كانا يعذبان ، أين كنت حينها ؟ وخضتَ ثلاث حروب ضد رسول الله ، بينما هما كانا يجاهدان مع رسول الله .
من الطريف أن الناس تناقلوا في مكة ما كان من أبي بكر وشرائه بلالاً فصار الإنسان إذا دخل بضائقة مالية يعذب العبد الذي يملكه حتى يشتريه الصديق .
هذه مما يروى من طرائف الأخبار ، قالوا : لم يعرف ولو مرة واحدة قاتل أحدًا ، أو شاتم ، أو أساء ، أو تخلى عن مروءة ، أو بخل بماله أو جاهه .
بعد وفاة سيدنا أبي بكر رضي الله عنه ذهب عمر يسأل زوجته أسماء بنت عميس كيف كان أبو بكر يعبد ربه عندما يخلو بنفسه ؟ فأجابته قائلةً : كان إذا جاء وقت السحر ، قبيل الفجر، قام فتوضأ ، وصلى ، ثم يستمر يصلي ، ويتلو القرآن ، ويبكي ويسجد ويبكي ويدعو ويبكي وكنت أنا أشم في البيت رائحة كبد تشوى ، فبكى عمر رضي الله عنه ، قال عمر : أنَّى لابن الخطاب مثلُ هذا ، وقال عمر : ما أنا إلا حسنة من حسنات أبي بكر .
بعض كتاب السيرة يصفون شكله ، ونحن الآن متشوقون إلى أن نعرف شكله ، قالوا : كان أبيض اللون ، نحيل الجسم ، خفيف العارضين ، أحنى الظهر ، معروق الوجه ، غائر العينين ، ناتئ الجبهة ،عاري الساقين ، كما يقال أيضاً : كان يُرى ضعيفاً مستضعفاً ، فإذا جد الجد فهو الليث عادياً ، كان يُرى أكثر دهره صامتاً ، فإذا تكلم بزَّ القائلين .
مرة مُدح هذا الصحابي الجليل ، فقال : اللهم اجعلني خيراً مما يقولون ، إنه طَموح ، أثنوا عليه ، وقال أيضاً : واغفر لي ما لا يعلمون ، ولا تؤاخذني بما يقولون ، إنني أرى من السنة أنّ الإنسان إذا مُدح أن يستغفر الله ، فهناك نص أشمل من هذا الدعاء ، فكان هذا الصحابي الجليل إذا مُدح يقول : اللهم أنت أعلم بي من نفسي ، وأنا أعلم بنفسي منهم ، اللهم اجعلني خيراً مما يقولون واغفر لي مالا يعلمون و لا تؤاخذني لما يقولون .
واللهِ الحديث عن هؤلاء الصحابة حديثٌ ممتع ومسعد وذو شجون ، و الإنسان إذا تحدث عن أصحاب رسول الله عاش في جنة القرب ، في وهج الأخلاق ، في روعة البطولات ، في جمال القيم ، قيم على بطولات على قرب من الله ، على إخلاص ، على تواضع ،على فطنة ، على ذكاء ، على مواقف حازمة ، فالإنسان يحتاج إلى هذه المثل ، و إلى تلك القيم ، كي يهتدي بها في حياته ، و الإنسان يقلد مَن فوقه ، نحن إذا عمِلنا عملا طيبًا فهو تقليدٌ ، لكن أصحاب رسول الله الكرام كانت أفعالهم أصيلة حقيقية .
.... ما القصد من تدريس سير صحابة رسول الله ..؟ إلا أن يكون هؤلاء الصحابة الكرام الذين رضي الله عنهم بالقرآن الكريم قدوةً عملية لنا في الحياة ، يقول عليه الصلاة و السلام : إن الله اختارني و اختار لي أصحابي ، و هؤلاء الصحابة الكرام نماذج بشرية و لكن راقية جداً ، ولا بد لواحد منا من أن يلتقي مع أحد الصحابة إما في السن ، أو في الدور الاجتماعي ، وإما في الموقف ، أو في النموذج ، لذلك كل إنسان من المؤمنين ينبغي أن يتخذ من أحد الصحابة الكرام الذي يتوافق مع مرتبته مع دوره الاجتماعي ، مع مَنشئه ليكون هذا الصحابي الكريم قدوة لنا ، فسيدنا الصديق هو التلميذ الأول لرسول الله أصدقهم و أكملهم و أشدهم حباً و وفاءً و تضحيةً و أشدهم إباءً ، وأقربهم إلى الله عز وجل .
و أحب أن أقول كلمة قبل أن أختم هذا الدرس ، إن أبواب البطولات مفتحة في كل كل العصور ، أليس بإمكانك أن تكون مثالا صادقًا في تعاملك مع إخوانك ؟ أليس بإمكانك أن تضحي من أجل نشر هذا الحق ؟ أبواب الخير مفتحة في كل العصور ، فلذلك نحن حين ندرس هذه الموضوعات ، فالقصد أن تترجم إلى ممارسات ، وأن يكون هؤلاء الصحابة الكرام في قلوبنا وفي حياتنا ، وسوف ننتقل في دروس قادمة ، إن شاء الله إلى نماذج من الصالحين ، بحسب ما يتيسر ، إما مِنَ التابعين ، أو العلماء الكبار ، وأبطال الفقه ، ونبقى نتابع في هذا الدرس سيرَ أعلام المسلمين .
و الحمد لله رب العالمين

عبدالله المنحول
22-11-2007, 03:56
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

جزاك الله كل خير وحفظك من كل شر

ولي عوده الاستكمال القرائه


ولكم كل حترام وتقدير