المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السيرة


sweet9381
22-11-2007, 02:33
سيرة الصحابة: الخلفاء الراشدين : سيدنا أبو بكر الصديق : الدرس 4/ 5 لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
الموضوع : ورعه وحكمته في الخلافة .
تفريغ : المهندس عبد العزيز كنج عثمان
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي والأستاذ أحمد مالك .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً و أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه ، و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين
أيها الإخوة المؤمنون : مع الدرس الثاني و السبعين من دروس سير صحابة رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين ، ومع الدرس الرابع من سيرة سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، والموضوع اليوم : أن هذا الصحابي الجليل الذي صار خليفة المسلمين ألقى خطبة يسميها بعض المؤرخين "خطبة الخلافة " فلو دققنا في كلمات هذه الخطبة لوجدنا أنّه قرَّر فيها مبادئ تبهر العقل ، وتأخذ بالألباب ، فأول كلمة قالها : أيها الناس ، إني وليت عليكم و لست بخيركم ، انطلق مِن أنه واحد من المسلمين ، ليس فوق المسلمين بل هو واحد منهم ، انطلق من أن الخلافة ليست تشريفاً ولكنها تكليفاً ، ليس الخليفة أفضل من أي مسلم ولكنه أثقل المسلمين حملاً ، من هنا انطلق ، والمؤمن هكذا أيها الأخوة ، المؤمن أَدَّبه ربه ، حينما سئل عليه الصلاة و السلام عن هذا الأدب الرفيع الذي يتحلّى به منه ، فقال عليه الصلاة و السلام : أدبني ربي فأحسن تأديبي .
(ذكره القرطبي في تفسيره عند الآية 4 من سورة القلم بلفظ : أدبني ربي تأديبا حسنا)
أيها الإخوة الكرام : الإنسان حينما يرتفع شأنه ، قد يرتفع بماله ، وقد يرتفع بقوته ، وقد يرتفع بحسبه ، وقد يرتفع بوسامته ، وقد يرتفع بعلمه ، وقد يرتفع بذكائه ، وقد يرتفع بمقتنياته ، فالإنسان حينما يرتفع شأنه هل يتغير؟ سيدنا الصديق من هؤلاء القلة المعدودين على أصابع اليد ، حينما أصبحوا في قمة المجتمع الإسلامي ما تغيروا ، ولا تبدلوا ، ولا رأوا أنفسهم فوق المجتمع ، فلذلك هذه الخطبة تعني أنّ كل إنسان إذا كان لا شأن له ، أو مع عامة الناس ، أو في الدرجات الدنيا في المجتمع ، فقد يكون متواضعاً ، لأنه فعلاً من درجة دنيا ، فأنى له أن يتكبر ، لكنَّ مكارم الأخلاق تتبدَّى ، حينما يصعد الإنسان يبقى بافتقاره إلى الله عز وجل ويبقى بتواضعه ، ونتساءل : هل يبقى ثابتًا على عبوديته لله عز وجل ؟ أم هل يبدِّل هذا المنصب أخلاقَه ؟ وهل يجعله يقسو على أعدائه ؟ وهل يجعله يتيه على عباد الله ؟
أيّها الناس وُلِّيتُ عليكم ، ولستُ بخيركم ، وهي اللفتة الأولى ، ولذلك فالمؤمن ينطلق من أنه واحد من الناس ، إذا انطلقت من أنك واحد من الناس أحبك الناس ، التفوا حولك ، وأقبلوا عليك ، أما إذا انطلقتَ مِن أنك فوقهم ، فأنت شيء عظيم ، وهم لا شيء انفضّوا من حولك ، أيها الناس وليت عليكم و لست بخيركم ، وأنتم أيها الناس لكم دور، هو دور إيجابي مع الخليفة ، قال : إن أحسنت فأعينوني ، و إن أسأت فقوموني ، ما أروعها من كلمة لو طبقها المسلمون فيما بينهم ، فمثلاً لك أخ تفوَّق ، أفتعاديه ، وتحسده ، وتتمنى أن تزول هذه النعمة عنه ، فهذا هو النفاق ، لكن لك أخ تفوّق ، فإن كان على حق فعليك أن تدعّمه ، وإن كان على باطل فعليك أن تنصحه ، وليس هناك حل ثالث ، ليس هناك موقف ثالث أخوك ، أستاذك ، أي إنسان ، إن كان على حق فعليك أن تعينه ، وإن زلّت قدمه ، أو ضل رأيه فعليك أن تنصحه ، وفي الحالتين لا ينبغي أن تعاديه ، فأنت بين مؤيد ناصح ، فقط بهذه الطريقة ينمو المجتمع الإسلامي ، و يقوى ، ولا يتفتت ، لكن ما الذي يحصل الآن ؟ أن الإنسان حينما يضعف إيمانُه بدَل النصيحة يفضح ، وبدل أن ينصح يشهر به ، و بدل أن يُعان يحسد ، فالحسد و الفضيحة هما من لوازم المنافقين ، لكن المؤمن بين حالتين ، معين أو ناصح ، أخوك على حق عاونه ، أخطأ انصحه بينك و بينه ، هذا يؤكد إخلاصك و يؤكد إيمانك ، أما أن تحسد ، أما أن تتمنى أن تزول هذه النعمة عن أخيك ، أما أن تَفضح دون أن تَنصح ، تُشهِّر دون أن تسدي ؟ فهذا ليس من أخلاق المؤمنين ، قال : أما أنتم ، إن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني ، و كل إنسان ولاه اللهُ منصبًا ينبغي أن يفهم من حوله أن النصيحة أمانة ، وأن ترك النصيحة خيانة للأمانة ، أن المعاونة أمانة و أن ترك المعاونة خيانة ، هكذا المجتمع المسلم ، ناصح أو معين ، إن أحسنت فأعينوني و إن أسأت فقوموني ، البديل عند المنافقين : الحسد إذا أحسن و الفضيحة إذا أساء ، مع الإساءة فضيحة و مع الإحسان حسد ، هذا مجتمع المنافقين ، لكن مجتمع المؤمنين إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني ، ولست بخيركم ، بل أنا واحد منكم ، لست أفضل من أيِّ رجل منكم ، و لكني أثقلكم حملاً، ثم تناول رضي الله عنه القيم الثابتة ليؤكِّد أنها المبادئ التي يتبناها ، فقال : ألا إن الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له ، بمجتمع الغاب الذي ينتصر هو القوي ، بمجتمع الحق الذي ينتصر هو صاحب الحق ، بمجتمع الغاب القوي هو الذي ينتصر، بمجتمع المؤمنين صاحب الحق هو الأقوى ، القوة للقوي في مجتمع الغاب ، القوة لصاحب الحق في مجتمع المؤمنين ، قيَّم نفسَه ، وكلف مَن حوله بمهماتهم ، ثم بين أن هذا المجتمع تسوده قيم ثابتة ، تسوده نظم جاء بها عليه الصلاة والسلام ، لكن جبلة بن الأيهم ملِكُ الغساسنة طاف حول الكعبة ، وكان قد قدِم إلى مكة مسلمًا ، وطاف إلى جانبه بدوي من فزارة ، فداس البدويُّ طرف إزاره ، فانخلع الإزار عن كتفه ، فالتفت إلى هذا البدوي ، و ضربه ضربة هشمت أنفه ، جاء البدوي إلى عمر بن الخطاب يشكو جبلة الملك ، فسأله : هل صحيح ما ادّعى هذا الفزاري الجريح ؟ قال جبلة بعنجهية واستعلاء و كبر : لستُ ممن ينكر شيئًا ، أنا أدَّبتُ الفتى ، وأدركت حقي بيدي ، قال له : أرضِ الفتى ، لا بد من إرضائه ، فما زال ظفرك عالق بدمائه ، أو ليهشمنَّ الآن أنفك ، وتنال ما فعَلَتْه كفُّك ، قال : كيف ذلك يا أمير هو سوقة ، من عامة الناس ، وأنا عرش وتاج ؟ كيف ترضى أن يخِرَّ النجم أرضاً ؟ قال : نزوات الجاهلية ، ورياح العنجهية قد دفناها ، وأقمنا فوقها صرحاً جديداً ، وتساوى الناس أحراراً لدينا وعبيداً ، قال جبلة : كان وهماً ما جرى في خلدي أنني عندك أقوى و أعز ، أنا مرتد إذا أكرهتني ، قال له : عنق المرتد بالسيف تحز ، عالم نبنيه ، كل صدع فيه بشبا السيف يداوَى ، وأعز الناس بالعبد بالصعلوك تساوى ، واللهِ إن خطبة الخلافة لتُكتَب فيها مجلدات ، كلمات قليلة يمكن إلقاؤها في خمس دقائق ، لكنه أعطى كل شيء حقه ، وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم ، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ، رُبَّ أشعث أغبر ذي طريق مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، هذه الخطوط التي يتمايز بها الناس في المجتمعات غير المؤمنة ، حظ المال ، وحظ العلم العصري ، وحظ القوة ، والمنصب ، والجاه ، والوسامة والذكاء ، هذه لا شأن لها إطلاقاً في مجتمع المسلمين ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، وانتهى الأمر.
سيدنا أبو بكر رضي الله عنه لما رأى بلالا يُعذَّب ، وبلال يومئذٍ عبد ، وسيدنا الصديق كما نعلم في قمة المجتمع من أشراف قريش ، كان غنياً شريفاً حسيباً نسيباً ، وبلال عبد ، مّر عليه وهو يعذَّب مِن قِبَل سيده ، فنهاه الصدِّق ، قال له أمية بن خلف : إذا شئت فاشترهِ ، فقال له الصدِّيق : بكم تبيعه ، وبعد أن تساوما اشتراه ، قال: والله لو دفعتَ به درهماً لبعتكه ، فقال الصدِّيقُ : واللهِ لو طلبتَ مائة ألف لأعطيتكها ، فلما دفع ثمنه ، وأخذه من بين يدي سيده ، وضع يده تحت إبطه ، وقال : هذا أخي حقًّا ، وأحب أن تنطلق من أن المؤمنين جميعاً مجتمع متساو ، والناس سواسية كأسنان المشط ، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ، مطبقاً للكتاب والسنة ، فلي عليكم الطاعة ، أما إذا خرجتُ عنها فلا طاعة لي عليكم ، والناسُ يسمّون هذا الخطاب في زماننا هذا خطابَ العرش ، يعني الملك يلقي خطاب العرش يبيِّن فيه مبادئ التعامل مع الرعية ، قال الصدِّيقُ : ((أيّها الناس إني وليت عليكم ولست بخيركم إن أسأت فقوموني ، ألا أن الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له ألا وإن القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه ، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم ، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله)) ، عشرون ثانية ، وكل شيء في هذا الخطاب ، أنا لا أبالغ أن هذا الخطاب الذي استغرق عشرين ثانية تُكتب عنه مجلدات ، فكل كلمة تشير إلى مبدأ ، مثلاً أنت إذا كنت في دائرة حكومية ؛ رئيس دائرة ، عندك ثلاثة موظفين ، إن انطلقت من أنك إنسان مهيمن عليهم ، وأنك أعلى منهم ، وتحكّم فيهم ، وتبتغي أن يتذللوا لك ، فأنت جاهلي وعنصري ، بل أنت واحد منهم ، وأنت في خدمتهم ، الله فوق الجميع سيراقبك وسيحاسبك ، سيعاملك كما تعاملهم ، البر لا يبلى ، والذنب لا ينسى ، والديّان لا يموت ، اعمل ما شئت ، كما تدين تدان ، أنت مع أخيك ، مع صديقك ، مع قريبك ، فإن ارتفع قريبُك تقول : لا بد من معاداته ، وتحقيره ، إنْ كنتَ كذلك فأنت جاهلي وعنصري ومنافق ، لكنْ عليك أن تصدع بالحق ، فإنْ صعد بالحق فساعدْه ، وإنْ أخطأ فانصحْه وأرشدْه ، واجعلوا هذا مبدأ لكم ، أنت مع إخوانك ، وأصدقائك ، ومن هو أكبر منك ، وأصغر منك ، ليس لكم غير حالتين ؛ فإنْ كان على حق فساعدْه ، أخطأ تنصحه فقط بينك وبينه ، والمنافق على العكس من ذلك ، إن صعد بالحق يحسده ، وإن غلط يفضحه ، قال عليه الصلاة و السلام :" اللهم إني أعوذ بك من جار سوء ، إن رأى خيراً كتم و إن رأى شراً أذاعه ، اللهم إني أعوذ بك من إمام سوء إن أحسنت لم يقبل و إن أسأت لم يغفر "
وطن نفسك على الحق والصواب ، واللهُ عز وجل حينما يراك تعين إخوانك ، ولا تستعلي عليهم ، وتأخذ بيدهم ، أحبَّك ونصرك ووفّقك ، أما إذا رأى ربنا عز وجل أن عباده متحاسدين ، متباغضين كان عليهم لا لهم ، ولذلك جاء الدعاء القرآني :

(سورة الحشر )
و قوله تعالى :

(سورة الحجر )
محبتك لإخوانك دليل إيمانك ، معاونتك لهم دليل إيمانك ، فأن تنصحهم نصيحة مخلصة بينك وبينهم هذا دليل إيمانك ، أما أن تفضحهم ، وأن تشهر بهم ، وأن تحسدهم ، وأن تتمنى زوال النعمة عنهم ، فقد وضعت نفسك حينئذٍ في خندق المنافقين وأنت لا تدري ، وأنت لا تشعر ، لذلك ما من آية في كتاب الله يتوعد الله فيها إنساناً على شيء لم يترجم بكلمة ولا بحركة ولا بغمز ولا بلمز إلا قوله تعالى :

( سورة النور )
ماذا فعل ؟ لم يفعل شيئًا ، ولم يتكلم ، ولم يتحرك ، ولم يوقع الأذى ، إلا أنه تمنى أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ، وضع نفسه في خندق المنافقين ، مرة سألني أحدهم حول هذه الآية ، فقلت له : هل في الأرض كلها أمٌ على وجه الأرض تتمنى فضيحة ابنتها ، قال : لا ، فإذا تمنت أمٌ فضيحة ابنتها فلنحكم أنها ليست أمًّا هذه الفتاة ، فمجرد تمني امرأة أن تفتضح ابنتها ، إذاً فهي ليست ابنتها ، هذا مستحيل ، لو كانت ابنتها لمَا أمكنَ أن تتمنى لها الفضيحة ، لكن هذه المرأة التي تمنت فضيحة هذه الفتاة هي قطعاً ليست أمها .
والإنسان حينما يتمنى أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا قطعاً ليس في صف المؤمنين ، بل هو مع المنافقين .
أُلِحُّ على هذا ؛ لأني أرى بعض التحاسد بين المؤمنين ، أرى بعض التشهير ، أنت بين ناصح وبين معاون ، معاون أو ناصح .
لك أخ حوله مشكلة أذهب إليه ، يقال عنك كذا وكذا ، فهل هذا صحيح ، إن كان صحيحًا فانصحْه : يا رجل هذا خلاف الشرع ، وإن كان غير صحيح فقل له : أرحتَ قلبي ، والحمد لله.

( سورة الحجرات )
فأبو بكر إنسان يصل إلى قمة المجتمع ، ويدعو الناس أن يحاسبوه إن أساء ، يقوِّموه إن اعوجَّ ، وإن أحسن فليعينوه ، يؤكد لهم أنه ليس فوقهم ، هو واحد منهم ، يكلفهم أن يراقبوه ، فإن عصى فلا طاعة له عليهم ، ما هذا ؟ هذا شيء غير مألوف ، لذلك فهذا الصحابي الجليل قال يومًا : واللهِ ما كنت حريصاً على الإمارة يوماً ، ولا ليلة ، ولا سألتها اللهَ لا في سر ، ولا في علانية ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول :" طالب الولاية لا يولَّى "
في بعض البلاد الديمقراطية يدفع المرشح أحياناً مائة مليون دولار حتى يرشح ، إذاً هو طالب ولاية ، وطالب الولاية لا يولى ، قال : والله ما كنت حريصاً على الولاية يوماً ، ولا ليلة ، ولا سألتها الله لا في سر ، ولا في علانية .
ذات يوم دخل عليه عمر رضي الله عنه ، ليزوره ، فألفاه يبكي ، وما كاد عمر يبصر أمامه الصديق يبكي حتى تشبث به وكأنه زورق نجاة ، قال له : يا عمر لا حاجة لي في إمارتكم ، لا يريد ، لقد عُلِّقتْ بي تعليقاً ، وأُرغِمتُ عليها .
إخواننا الكرام : المؤمن ، أرجو أنْ تصدقوني فيما أقول فهو كلام دقيق ، المؤمن إذا وصل إلى الله فهو حقًّا سعيد ، وهذه السعادة التي عاشها بعد أن وصل إلى الله لا تقدَّر بأثمان مهما بلغت ، واللهِ هو أكبر مِن كل شيء في الدنيا ، وكما يبدو فسيدنا الصديق اطمأنت نفسه لمعرفة الله ، والإقبال عليه ، فهذه الخلافة لا تقدم ولا تؤخر ، قال : يا عمر لا حاجة لي في إمارتكم .
ذات مرة طلب رجل حاجة من سيدنا الصديق ، فأراد الصديق أن يأخذ رأي عمر وكان قاضياً ، قال للرجل : اذهب إلى عمر ، سيدنا عمر رفض الموضوع كلياً و بتَّ فيه بشكل نهائي ، فوقع هذا الشخص في حنق ، وعندما جاء الصديق قال له : أأنت الخليفة أم هو ؟ عمر تصرف ورفض نهائياً ، أنت طلبت منه أن يعطيك رأيه ، لكنه تصرف وأعطى القرار ، أأنت الخليفة أم هو ؟ قال : هو إذا شاء ، لا فرق بيننا ، قال يا عمر : لا حاجة لي في إمارتكم ، لكن عمر رضي الله عنه قال : إلى أين المفر والله لا نقيلك ، ولا نستقيلك ، أنت أرحمُنا ، وأنت أعلمنا و أنت أقربنا ، وأنت أفضلنا ، والله لا نقيلك ولا نستقيلك ، وهناك قصة أرجو من الله تعالى أن يوفقني لبيان أبعادها .
تروي كتب السيرة أن السيدة فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والعباس عمُّ رسول الله ذهبا إليه ، إلى سيدنا الصديق ، يسألانه حقهما في قطعة أرض صغيرة ، كان النبي صلى الله عليه و سلم قد أصابها في بعض الفيء وكان عليه الصلاة و السلام يعطي السيدة فاطمة و بعض أهله جزءاً من نتاجها ثم يقسم الباقي بين فقراء الصحابة ، يعني النبي ماله من الفيء شيء ، قطعة أرض زراعية ، فكان يعطي بعض ريعها للسيدة فاطمة ولعمه العباس ، ويوزع الباقي على فقراء المسلمين ، فلما توفي النبي عليه الصلاة والسلام جاءت السيدة فاطمة وسيدنا العباس إلى سيدنا الصديق يسألانه هذه الأرض ، فقال لها وللعباس : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إِنَّا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ لا نُورَثُ مَا تَرَكْتُ بَعْدَ مَئُونَةِ عَامِلِي وَنَفَقَةِ نِسَائِي صَدَقَةٌ *
(متفق عليه)
وإني والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله عليه الصلاة والسلام يصنعه إلا صنعته ، فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ .
سيدنا الصديق بالمناسبة ما من مخلوق على وجه الأرض أحب إليه من رسول الله وهذه ابنته بضعةٌ منه ، وجاءت ابنته تسأله هذه الأرض لأنها لأبيها وقد سمع الصديق من رسول الله عليه الصلاة والسلام ، أن النبي لا يورث ما تركه صدقةً ، فالولاء لمن ؟ للحق أم للأشخاص ؟ إنْ كان للأشخاص فهذه ابنته أحبُّ الناس إليه على الإطلاق ، تريد أخذَ بعض ريعها ، أما إذا كان الولاء للحق ، فالحق الذي جاء به النبي يؤكد أن النبي لا يورث ، ولكن من أجل أن يطمئنها وأن يقنعها ، وأن يجعلها ترتاح لهذا التوجيه ، جمع كبار الصحابة ، أي طلب عمر رضي الله عنه وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسألهم أمامها ناشدتكم الله نشدتكم بالذي تقوم السماء والأرض بأمره ، ألم تعلموا أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال :" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ لا نُورَثُ مَا تَرَكْتُ بَعْدَ مَئُونَةِ عَامِلِي وَنَفَقَةِ نِسَائِي صَدَقَةٌ *
(متفق عليه)
فقدْ ظن لعلها لم تسمع كلام أبيها ، فجاءت تطلب حقها ، لكنه سمع من رسول الله عليه الصلاة والسلام أن الأنبياء لا يورثون ، ما تركوه صدقة ، فمِن أجل أن تقتنع ، ومن أجل أن تكون طيبة القلب ، مرتاحة ، جمع الصحابة الكرام ، وناشدهم ربهم : هل سمعتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إِنَّا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ لا نُورَثُ مَا تَرَكْتُ بَعْدَ مَئُونَةِ عَامِلِي وَنَفَقَةِ نِسَائِي صَدَقَةٌ *
(متفق عليه)
سمعت تواتراً ، سيدنا عمر ، سيدنا طلحة ، سيدنا الزبير ، سيدنا سعد ، سيدنا ابن عوف ، سألهم أمامها وأقروا أنهم سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول ، قالت : إنك تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وهبها لي في حياته ، فهي إذاً لي بحق الهبة لا بحق الإرث في حياته وهبها لي فهي لي هبة لا إرثاً ، فقال أبو بكر : أجل أعلم ، لكني رأيته يقسمها بين الفقراء والمساكين وابن السبيل بعد أن يعطيكم منها ما يكفيكم ، وإذاً فقد أراد أن يكون فيها حق دائم للفقراء ، فهي وقف ، فعلُهُ يؤكِّد أن هذه الأرض وقف لفقراء المسلمين والمساكين ، كان يعطيكم منها بعض حاجتكم ، ويعطي الباقي لفقراء المسلمين .
ثم جاءت بحجة ثالثة ، قالت فاطمة رضي الله عنها : دعها إذاً في أيدينا ونحن نجري فيها على ما كانت تجري عليه وهي في يد رسول الله ، لا بأس ، هي وقف اجعلها في أيدينا ونحن نعطي الفقراء الذين كانوا يأخذون من ريعها ، قال أبو بكر : لست أرى ذلك فأنا أمير المؤمنين من بعد رسولهم وأنا أحق بذلك منكما أضعها في الموقع الذي كان رسول الله يضعها فيه .
هذه القصة مفادها أن الولاء لله وحده ، وأن الولاء للحق الذي جاء به النبي ، وأن الولاء لهذه الشريعة السمحاء ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم مشرع ، فإذا قال : كذا وكذا فكلامه شرع ، ومع أن الصديق عليه رضوان الله كان في أعلى درجات الحب لرسول الله ، لكن يبقى الولاء لله عز وجل ، هكذا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ لا نُورَثُ ، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ مَئُونَةِ عَامِلِي وَنَفَقَةِ نِسَائِي صَدَقَةٌ *
(متفق عليه)
له موقف أيها الإخوة لا يصدق ، لشدة ولائه للحق ، سيدنا الصديق كان خليفة المسلمين ، وأرسل سيدنا أسامة بن زيد قائداً لا تزيد سنه عن سبعة عشر عاماً ، وهذا الجيش الذي يقوده أسامة بن زيد فيه جنود كسيدنا عمر ، سيدنا عثمان ، سيدنا علي ، كبار الصحابة ، أعلام الصحابة ، قمم الصحابة ، كانوا جنوداً تحت إمرة سيدنا أسامة بن زيد ، حسناً ، أراد الصديق رضي الله عنه أن يستبقي في المدينة سيدنا عمر ، هذا من حقه هو مستشاره الأول ، أليس بإمكانه أن يقول له : يا عمر ابقَ معي ، لو فعل هذا فهل هناك خطأ ؟.
لكن هناك جيش على رأسه قائد هو أسامة بن زيد ، صغير السن ، سنه سبعة عشر عاماً ، الجنود الذين تحت إمرة هذا القائد الشاب منهم سيدنا عمر ، سيدنا عثمان ، سيدنا علي ، هؤلاء كبار الصحابة ، العمالقة ، القمم ، أليس من حقه أن يستبقي عمر ليكون مستشاره ، وأمين سره ، حسناً ، هذا من حقه ، كيف يتصرف ؟ يقول : يا عمر ابقَ إلى جانبي ، ولكن لو فعل ذلك لتجاوز إمارة أسامة ، عمر الآن جندي تحت إمرة أسامة فلو استبقاه إلى جانبه ولم يستأذن أسامة وتجاوزه وضعضع سلطته وضعضع مكانته ، اسمعوا أيها الإخوة ماذا قال الصديق رضي الله عنه ، خرج الصديق يودِّع أسامة بن زيد ، وكان بين جنود هذا الجيش عمر بن الخطاب ، وكان أبو بكر حريصًا على أن يبقى عمر بجواره ، ولقد كان يستطيع كخليفة للمسلمين أن يستبقيه بقرار ينفرد بإصداره ، ولكنه يعلم أن في هذا التصرف افتئاتاً على موظف مسؤول يجب أن توفر له الضمانات التي تمكنه من أداء واجبه ، و أولى هذه الضمانات : ألاَّ تنتقص هيبته و سلطته ، فماذا فعل ؟ اقترب الخليفة العظيم سيدنا الصديق من قائد الجيش أسامة و قال له في همس و رجاء إذا رأيت أن تترك لي عمر بن الخطاب فإني أجد في بقائه معي خيراً و نفعاً ، هذا درس بليغ ، مستشفى لها مدير و هناك أطباء و أنت أعلى من مدير المستشفى فلا ينبغي أن تطلب طبيبًا مباشرة ، بل لا بد أن تستأذن مدير المستشفى ، أنت مدير تربية ، وهناك مدير ثانوية ، وهذا مدرس عند هذا المدير ، وأنت بحاجة لهذا المدرس فلا ينبغي أن تقول له تعال إلي ، هناك مدير يجب أن تستأذن مديره ، هناك تسلسل ، تعبير إداري لا بد من مراعاة التسلسل ، خليفة عظيم يهمس في أذن شاب صغير عينه النبي قائداً للجيش يهمس في رجاء أن يستبقي عمر .
يقول كتاب السيرة : إن أبا بكر لم يفعل ذلك مجاملة و لا تواضعاً ، إنما فعله واجباً ، و لو قال أسامة ساعتئذ لا ما وسع الخليفة إلا أن يقبل هذا الرفض .
وهذا موقف ثانٍ : سيدنا الصديق تسلم منصب الخلافة و في أول يوم من خلافته يضع على كتفيه لفافة كبيرة من الثياب ليبيعها في السوق ، ما هذا؟ رآه عمر رضي الله عنه و أبو عبيدة فوقفا يسألانه : إلى أين يا خليفة رسول الله ؟ قال : إلى السوق ، قالا : لماذا و قد وليت أمر المسلمين ، قال : فمن أين أطعم أولادي ؟ نريد أن نأكل ، قال عمر : انطلق معنا نفرض لك شيئاً من بيت المال ، تعويض تفرغ ، صحبهما الخليفة إلى المسجد حيث نودي أصحاب رسول الله ، وعرض عليهم عمر رأيه في أن يفرض للخليفة بدل تفرغ ، أنت خليفة ومكلف برعاية شؤون المسلمين فهل من المعقول أن تبيع أقمشة بالطريق من أجل أن تأكل أنت و أولادك ؟ صدقوني ليس هذا تمثيلاً ، أحياناً يكون هناك تمثيلٌ ، هذه حقيقة .
كان لهذا الصحابي الجليل غلام جاءه بطعام فأكل منه ، ولما فرغ من أكله قال له الغلام : أتدري ما هذا يا خليفة رسول الله ؟ قال أبو بكر : ما هذا ؟ قال إني كنت قد تكهنت لرجل في الجاهلية ، وما أحسُن الكهانة إلا أني خدعته ، وقد لقيني اليوم فأعطاني مالاً ، فهذا الذي أكلت منه من هذا المال ، قال : فأدخل الصديق يده في فمه حتى قاء كل شيء في جوفه ، ويضيف صاحب كتاب الصفوة أنه قيل لأبي بكر رضي الله عنه : يرحمك الله أكلُّ هذا من أجل لقمة واحدة ؟ فقال : و اللهِ لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها .
قرأت مرة أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى تمرة على سريره فأكلها ، هكذا قرأت الحادثة ، لا أدري مستوى تخريجها ، على كلٍّ فيها مغزى كبير ، فانقطع الوحي مدة طويلة ، فقال عليه الصلاة و السلام للسيدة لعائشة : لعلها يا عائشة من تمر الصدقة ، قالوا له : أكلُّ هذا من أجل لقمة ، قال : والله لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها قال تعالى :

( سورة مريم )
هنا مسألة مهمة جداً لا بد من ذِكرها ؛ هل هذا حكم شرعي ؟ أم موقف شخصي ؟ هذا موقف شخصي ، أي إذا أكل الإنسان طعاماً ، ثم عرف بعد ذلك أن الطعام فيه شبهة ، فهل هو مكلف أن يغسل معدته ، أفيذهب إلى المستشفى إسعافاً ، ويجري غسيلَ معدة ؟ هذا ورع من سيدنا الصديق ، وموقف شخصي ، وليس حكماً شرعياً .
سيدنا عمر كان يقول دائماً : يرحم الله أبا بكر ، لقد أتعب الذين جاءوا بعده ، أتعبهم كثيراً ، بعد أن جاءه الفيء من الفتوح ردّ كل المال الذي أخذه إلى بيت مال المسلمين حيث أخذه ، وقال لها : انظري ما زاد في مال أبي بكر منذ أن ولي هذا الأمر فردِّيه على المسلمين ، أوصى ابنته ، أيُّ شيء أخذته من بيت المال رديه عليه بعد أن أغناني الله تعالى من الفيء والغنائم .
هذه نماذج من مواقف هذا الصحابي الجليل الذي كان قمة في الورع ، وبُعْد الفهم و الشجاعة ، وفي حسن سياسة الأمور ، فقد كان بحق كما يقولون : المجدِّد الثاني للدولة الإسلامية بعد أن خرج الناس من دين الله أفواجاً ، عقِب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وبعد أنْ دخلوه أفواجاً.
الحمد لله رب العالمين
***