أديب الدعفس
13-09-2008, 02:12
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...أولويّات الإنفاق
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ) ، ( وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ) . يأمر الله - عز وجل - عباده ببذل المال ، والإنفاق من هذا المال الذي هو ملك الله ، ثم هو بعد ذلك يثيب عليه ، ويعطي أجزل الثواب لصنع التكافل بين المسلمين .
فرض الله الزكاة والصدقة في المال ، لمقاصد دينية ودنيوية عظيمة ،
فالصدقة تقي مصارع السوء للأفراد والمجتمعات، وتحفظ المجتمع من الانهيار ، فبعض المجتمعات مُبتلَى بالأثرة ، وقد يُصاب بكارثة ما ،
فإذا لم يكن فيه مؤسسات ترعى الضمان الاجتماعي، وتحقق العدالة ، و تسعى لتقريب الفجوة بين الفقراء والأغنياء فإن المجتمع يتعرض للزوال ؛ لفقدانه المؤسسات المدنية والأهلية التي تقيم التعاون بين الناس ، وتدرّبهم على روح العمل الجماعي .
فإذا تعرض هذا المجتمع الأناني المحطم للارتباك السياسي ؛ فإنه سيتمزق ويبدأ من الصفر في أشياء كثيرة ؛ فالدعم والمساندة والإنفاق يحفظ المجتمع ، ويصنع التوازن بين فئات المجتمع ، فكثير من المجتمعات يوجد بها غنى مطغٍ وإلى جواره فقر منسٍ ( وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ) .
وإذا نظرت إلى الحواضر والعواصم الكبرى الراقية المتمدنة تجد المباني الراقية العالية إلى جوار بيوت الصفيح ، وإلى جوار الأحياء الفخمة الرفيعة هناك أحياء شعبية لا تجد القوت ، وتعيش على ما هو أقل من الكفاف
ولا تحتوي على أقل متطلبات العيش الكريم ، وتجد مرض التخمة والترهل إلى جوار مرض الجوع والمتربة ، فالإنفاق الديني يقرّب الفجوة بين هذه الفئات ويحفظ المجتمع من الثورات ..
والتاريخ حافل بما يُسمّى : ( ثورات الجياع ) ، ولئن كان هناك من يغضب لأجل الدين ، وآخر لأجل السياسة ، فإن الناس كلها تغضب لأجل الخبز ولقمة العيش ، وإن الذين لا يجدون لقمة عيشهم مستعدون للتضحية بكل شيء حتى بأنفسهم ، ولهذا كلما كانت المجتمعات محصنة بالعدل والتكافل الاجتماعي كان ذلك ضماناً لها من الانهيارات والثورات ، ولذا أوصى عمر بن عبد العزيز بعض عمَّاله الذين شكوا من خطر التمرد أن يحصّن مدينته بالعدل !
ولكن الإنفاق يحتاج من المسلمين إلى وعي وترشيد وإلى فقه لأولويات الاحتياج ، ولدراسة الأهم ، والأصلح ؛ فمثلاً يمكن اعتبار " الوقف " من خير موارد الإنفاق ، ويمكن استثمار مال الإنفاق بعقل وخبرة ، فيما ينفع الناس والمحتاجين .
ومن أهم الأولويات في الإنفاق : رعاية القريب ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم لطلحة حينما أراد التصدق ببئره : " أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ " والحديث في الصحيحين ، فالقريب سواء كان قرابة نسب أو سكن وجوار هو أولى بالتعاهد والرعاية والصدقة ، وذلك لا يعني الغفلة عن البعيد ، فكلاهما يحتاج إلى فقه وموازنة ، وبالإجمال فالقريب أولى .
وفي الإنفاق لا بد من مراعاة الاحتياجات الأولية ، بدءاً بالضروريات ، ثم الحاجيات ، ثم التحسينات ، فمثلاً في داخل المملكة العربية السعودية تُطرح فكرة إنشاء جامعات من أموال المحسنين سواء كانت للعلوم الدينية أو الدنيوية ، وهي فكرة رائدة موفقة ؛ لأن من شأن هذا تأهيل الطلاب لخوض غمار الحياة ، ولخدمة أنفسهم وخدمة المجتمع ..
وكذلك إقامة مراكز البحوث والدراسات وإنشاء المساكن للفقراء والمحتاجين ، وقد بدأت بها بعض المؤسسات والجمعيات الخيرية ، وهناك مجالات للإنفاق تحتاج إلى أن يلتفت إليها المحسنون كدعم القنوات الفضائية الجادة والمحافظة ، ومواقع الإنترنت المفيدة ، ونشر الكتب والثقافة النافعة ، وهذه المجالات قد يكون لها مقام الضروريات ؛ لأنها تصنع الأجيال ، وتبني العقول ، وتؤهل المحتاج إلى سوق العمل ، فيستغني بذلك عن المسألة ..
وبعض الحكماء يقول : أعط الرجل صِنارة وعوّده على صيد السمك بَدَل أن تعطيه كل يوم سمكة ، ومن أمثلة ما تجب مراعاته - لدخوله في باب الضروريات - : الواقع المأساوي للحالة الفلسطينية من جوع وحاجة وحصار ، مثل المخيمات الموجودة في لبنان وسوريا ، وفي داخل فلسطين ، فهي تعاني الفقر والبطالة وتفتقر إلى ضروريات الحياة التي يجب توافرها في كل بيت ، فهذا وجه مهم من وجوه الإنفاق .
وفي عالمنا الإسلامي والعربي نرى كثيراً من المحسنين يمتلكون سخاءً في البذل والعطاء ، ولكنه إنفاق تقليدي - إذا صحّت العبارة - في مجالات تشبعت في الإنفاق ، وتزاحم عليها المحسنون ؛ فالحديث عن بناء المساجد ، وفضل ذلك لا ينكره أحد ، إنما ينبغي أيضاً مع مراعاتنا لبناء المسجد أن نراعي بناء الإنسان الذي يعمر المساجد .. بناء جسده وفكره ، وعقله وعلمه ، وتأهيله لما يجعله مستغنياً عن الناس ، وعن أن يكون عالة على المحسنين ..
وكم كلّفت مساجد في بلاد غربية وعربية ملايين الريالات ، وهذا ليس مذموماً بحد ذاته ، لكن إذا كان على حساب ما هو أهم منه فينبغي إعادة النظر فيه ومراجعته ، ينبغي أن نبني - أيضاً - المسلم الواعي المدرك الذي يستطيع أن يعيش الحياة بشكل صحيح ..
وإلا فقد نبني المساجد ولا نجد من يعمرها ، وقد يتزاحم المحسنون ، ويتنافسون على عمارة مسجد في مناطق يكون الجانب الإنساني فيها والإيماني مهملاً إلى حد بعيد ، فلا تجد من يقوم بالمتطلبات والحاجات الحياتية الضرورية ، مما يعكس خللاً في فقه أولويات الإنفاق ، وضعفاً في فهم مقاصد الصدقة والبذل .
وفي كل قضية يهب لها العالم الإسلامي تُجمع فيها الأموال ، ويتحمس لها بعض المحسنين ، ويحق لهم ذلك ، غير أنه يجب ألاّ يكون انفاقنا عبارة عن إطفاء حرائق ، بمعنى أننا لا نهب للنجدة إلاّ إذا وقعت كارثة هنا أو زلزال هناك ، فيكون تحركنا استثنائياً، بل لا بد من حركة دائمة ، وإغاثة مستمرة ، وإستراتيجية واضحة ؛ لعمل المساعدات ، وترتيب الإنفاق .
أما الإنفاق الذي يتْبعه الأذى من مَنٍّ على الناس ، أو تسبّب بالشحناء والبغضاء ، أو فتنة ، فإن الكلام الطيب ، والدعوة الحسنى باللسان والتوجيه النافع ، وبث الوعي ، ونشر الإيمان ، والدين الصحيح أنفع وأولى وأجدى .. يقول جل وعلا : ( قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ) .
د / سلمان بن فهد العودة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...أولويّات الإنفاق
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ) ، ( وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ) . يأمر الله - عز وجل - عباده ببذل المال ، والإنفاق من هذا المال الذي هو ملك الله ، ثم هو بعد ذلك يثيب عليه ، ويعطي أجزل الثواب لصنع التكافل بين المسلمين .
فرض الله الزكاة والصدقة في المال ، لمقاصد دينية ودنيوية عظيمة ،
فالصدقة تقي مصارع السوء للأفراد والمجتمعات، وتحفظ المجتمع من الانهيار ، فبعض المجتمعات مُبتلَى بالأثرة ، وقد يُصاب بكارثة ما ،
فإذا لم يكن فيه مؤسسات ترعى الضمان الاجتماعي، وتحقق العدالة ، و تسعى لتقريب الفجوة بين الفقراء والأغنياء فإن المجتمع يتعرض للزوال ؛ لفقدانه المؤسسات المدنية والأهلية التي تقيم التعاون بين الناس ، وتدرّبهم على روح العمل الجماعي .
فإذا تعرض هذا المجتمع الأناني المحطم للارتباك السياسي ؛ فإنه سيتمزق ويبدأ من الصفر في أشياء كثيرة ؛ فالدعم والمساندة والإنفاق يحفظ المجتمع ، ويصنع التوازن بين فئات المجتمع ، فكثير من المجتمعات يوجد بها غنى مطغٍ وإلى جواره فقر منسٍ ( وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ) .
وإذا نظرت إلى الحواضر والعواصم الكبرى الراقية المتمدنة تجد المباني الراقية العالية إلى جوار بيوت الصفيح ، وإلى جوار الأحياء الفخمة الرفيعة هناك أحياء شعبية لا تجد القوت ، وتعيش على ما هو أقل من الكفاف
ولا تحتوي على أقل متطلبات العيش الكريم ، وتجد مرض التخمة والترهل إلى جوار مرض الجوع والمتربة ، فالإنفاق الديني يقرّب الفجوة بين هذه الفئات ويحفظ المجتمع من الثورات ..
والتاريخ حافل بما يُسمّى : ( ثورات الجياع ) ، ولئن كان هناك من يغضب لأجل الدين ، وآخر لأجل السياسة ، فإن الناس كلها تغضب لأجل الخبز ولقمة العيش ، وإن الذين لا يجدون لقمة عيشهم مستعدون للتضحية بكل شيء حتى بأنفسهم ، ولهذا كلما كانت المجتمعات محصنة بالعدل والتكافل الاجتماعي كان ذلك ضماناً لها من الانهيارات والثورات ، ولذا أوصى عمر بن عبد العزيز بعض عمَّاله الذين شكوا من خطر التمرد أن يحصّن مدينته بالعدل !
ولكن الإنفاق يحتاج من المسلمين إلى وعي وترشيد وإلى فقه لأولويات الاحتياج ، ولدراسة الأهم ، والأصلح ؛ فمثلاً يمكن اعتبار " الوقف " من خير موارد الإنفاق ، ويمكن استثمار مال الإنفاق بعقل وخبرة ، فيما ينفع الناس والمحتاجين .
ومن أهم الأولويات في الإنفاق : رعاية القريب ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم لطلحة حينما أراد التصدق ببئره : " أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ " والحديث في الصحيحين ، فالقريب سواء كان قرابة نسب أو سكن وجوار هو أولى بالتعاهد والرعاية والصدقة ، وذلك لا يعني الغفلة عن البعيد ، فكلاهما يحتاج إلى فقه وموازنة ، وبالإجمال فالقريب أولى .
وفي الإنفاق لا بد من مراعاة الاحتياجات الأولية ، بدءاً بالضروريات ، ثم الحاجيات ، ثم التحسينات ، فمثلاً في داخل المملكة العربية السعودية تُطرح فكرة إنشاء جامعات من أموال المحسنين سواء كانت للعلوم الدينية أو الدنيوية ، وهي فكرة رائدة موفقة ؛ لأن من شأن هذا تأهيل الطلاب لخوض غمار الحياة ، ولخدمة أنفسهم وخدمة المجتمع ..
وكذلك إقامة مراكز البحوث والدراسات وإنشاء المساكن للفقراء والمحتاجين ، وقد بدأت بها بعض المؤسسات والجمعيات الخيرية ، وهناك مجالات للإنفاق تحتاج إلى أن يلتفت إليها المحسنون كدعم القنوات الفضائية الجادة والمحافظة ، ومواقع الإنترنت المفيدة ، ونشر الكتب والثقافة النافعة ، وهذه المجالات قد يكون لها مقام الضروريات ؛ لأنها تصنع الأجيال ، وتبني العقول ، وتؤهل المحتاج إلى سوق العمل ، فيستغني بذلك عن المسألة ..
وبعض الحكماء يقول : أعط الرجل صِنارة وعوّده على صيد السمك بَدَل أن تعطيه كل يوم سمكة ، ومن أمثلة ما تجب مراعاته - لدخوله في باب الضروريات - : الواقع المأساوي للحالة الفلسطينية من جوع وحاجة وحصار ، مثل المخيمات الموجودة في لبنان وسوريا ، وفي داخل فلسطين ، فهي تعاني الفقر والبطالة وتفتقر إلى ضروريات الحياة التي يجب توافرها في كل بيت ، فهذا وجه مهم من وجوه الإنفاق .
وفي عالمنا الإسلامي والعربي نرى كثيراً من المحسنين يمتلكون سخاءً في البذل والعطاء ، ولكنه إنفاق تقليدي - إذا صحّت العبارة - في مجالات تشبعت في الإنفاق ، وتزاحم عليها المحسنون ؛ فالحديث عن بناء المساجد ، وفضل ذلك لا ينكره أحد ، إنما ينبغي أيضاً مع مراعاتنا لبناء المسجد أن نراعي بناء الإنسان الذي يعمر المساجد .. بناء جسده وفكره ، وعقله وعلمه ، وتأهيله لما يجعله مستغنياً عن الناس ، وعن أن يكون عالة على المحسنين ..
وكم كلّفت مساجد في بلاد غربية وعربية ملايين الريالات ، وهذا ليس مذموماً بحد ذاته ، لكن إذا كان على حساب ما هو أهم منه فينبغي إعادة النظر فيه ومراجعته ، ينبغي أن نبني - أيضاً - المسلم الواعي المدرك الذي يستطيع أن يعيش الحياة بشكل صحيح ..
وإلا فقد نبني المساجد ولا نجد من يعمرها ، وقد يتزاحم المحسنون ، ويتنافسون على عمارة مسجد في مناطق يكون الجانب الإنساني فيها والإيماني مهملاً إلى حد بعيد ، فلا تجد من يقوم بالمتطلبات والحاجات الحياتية الضرورية ، مما يعكس خللاً في فقه أولويات الإنفاق ، وضعفاً في فهم مقاصد الصدقة والبذل .
وفي كل قضية يهب لها العالم الإسلامي تُجمع فيها الأموال ، ويتحمس لها بعض المحسنين ، ويحق لهم ذلك ، غير أنه يجب ألاّ يكون انفاقنا عبارة عن إطفاء حرائق ، بمعنى أننا لا نهب للنجدة إلاّ إذا وقعت كارثة هنا أو زلزال هناك ، فيكون تحركنا استثنائياً، بل لا بد من حركة دائمة ، وإغاثة مستمرة ، وإستراتيجية واضحة ؛ لعمل المساعدات ، وترتيب الإنفاق .
أما الإنفاق الذي يتْبعه الأذى من مَنٍّ على الناس ، أو تسبّب بالشحناء والبغضاء ، أو فتنة ، فإن الكلام الطيب ، والدعوة الحسنى باللسان والتوجيه النافع ، وبث الوعي ، ونشر الإيمان ، والدين الصحيح أنفع وأولى وأجدى .. يقول جل وعلا : ( قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ) .
د / سلمان بن فهد العودة